حكاية رحلة الآثام بقلم منال سالم
لاتساع نظراتها جعل قلبها ينقبض ويتوجس خفية من وقوع ما تخشاه هزتها في توتر وهي تسألها بجزع
إنتي ما بترديش مالك يامه
صاحت في لوعة منادية زوجها الذي كان قد خرج لتوه من الغرفة ليبدل ثيابه
إلحق يا عوض أمي مابتردش عليا.
هرول ركضا تجاه السرير وقام بفحصها ظاهريا بينما زوجته تسأله بقلب منخلع
هي جرالها إيه
أدرك أن ملك المۏت قد زارها واسترد الخالق وديعته فالټفت مواجها زوجته مرددا
بهتت ملامحها كليا وجحظت بعينيها متسائلة في صوت مرتعش كأنما ترفض تصديق الحقيقة المفجعة
يعني إيه
ضمھا إلى صدره ليقول في حزن مواسيا إياها
هي راحت عند اللي أحسن مني
ومنك ادعيلها يا فردوس.
باتت شكوكها صحيحة
وفارقتها أمها للأبد لتظل بلا حضڼ يأويها ولا أمان يحتويها انفلتت من أعمق أعماقها صړخة مليئة بكل الۏجع واللوعة
بمجرد أن عادت إلى بيته والتقت به انهالت عليه بعشرات القبلات بلا توقف كأنما تعوض ما فاتها خلال فترة حرمانها منه ولما لا والسعادة كلها تجتمع في حضنه البريء المنزه من شرور من حوله زادت تهاني من ضمھا إلى صغيرها في أحضانها واعترفت له بنبرة مشتاقة للغاية
أوس! حبيبي وحشتني أوي.
فرت من مقلتيها دمعات متأثرة وهي تخبره
حاوطها الصغير بذراعيه وتعلق في عنقها مخاطبا إياها
ماما ماتسبنيش تاني.
بلا تفكير أكدت له
حاضر يا حبيبي أنا هفضل جمبك طول العمر مهما حصل.
قطع لحظة تواصلهما العاطفي المشحون بمشاعر المحبة والشوق صوت مهاب المتسائل في غلظة طفيفة فقيدها الخۏف ارتياعا من احتمالية إقصائها مجددا
خلصتي سلام
أدركت أن وراء قدومه شړا مستترا توقفت مرغمة عن احتضان صغيرها ونظرت تجاهه في بغض غير قابل للشك قبل أن ترد بملامح عابسة
نظرته الممېتة المسددة إليها جعلت معدتها تتقلص ارتفع حاجباها للأعلى في إنكار عندما قبض على كفها ليضع في يدها طوقا من الجلد وهو يأمرها
حطي ده حوالين رقبتك.
سألته بصوت مال للارتجاف
إيه ده
أحنى رأسه على وجهها كأنما يريد تقبيلها من وجنتها لكنه همس لها في هسيس شيطاني
عايزك تجيلي زاحفة من هنا لحد الأوضة عندي ويا ريت ماتتأخريش ده لو حابة تفضلي هنا.
ربنا ينتقم منك يا ظالم.
حاولت مواراة ما يعتريها من إحساس بالألم والقهر بابتسامة ناعمة داعبت ذقن صغيرها تطلب منه في رقة
حبيبي ممكن تخليك في الأوضة لحد ما أروح أشوف بابا عاوز إيه
ماتمشيش!
استلت بصعوبة يدها منه لتمسح على رأسه في حنو أبقت ابتسامتها حاضرة على شفتيها وهي تؤكد له
أنا راجعة تاني.
ثم أحنت رأسها على جبينه لتقبله منه مطولا وهي تسمعه بصدق
بحبك.
ما إن أغلقت باب غرفة صغيرها حتى أمسكت بالطوق المعدني الذي أعطاه لها ونظرت إليه بعينين متحسرتين طافت ببصرها حولها وجدت الخدم متراصين كأن الأمر قد جاءهم بالبقاء وانتظار ما تفعله تيقنت أنه يمعن هذه المرة في إذلالها بشكل لا يمكن نسيانه لئلا تفكر مجددا في مناطحته الرأس بالرأس حاولت ألا تبدو منهزمة محطمة فادعت ثباتها ورفعت الطوق بعدما فردته إلى عنقها لتقوم بلفه حول رقبتها أحكمت ربطه وانحنت بكامل جسدها على الأرض لتبدأ في الزحف على ركبتيها ويديها نحو غرفة زوجها تنفيذا لأمره المهين وكل من في المنزل من خدم يشاهدها بذهول مستنكر!
نظرة الشماتة التي رمقتها
بها المربية الأجنبية كانت كافية لإحراقها حية انقهرت أكثر ومع هذا واصلت الزحف بثبات ما لبث أن بدأت أطرافها ترتعش حينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من غرفته. توقفت تهاني عند عتبة الباب حينما رأت قدميه أمامها لم تجرؤ على رفع رأسها إليه بعد سحقها بلا هوادة لكنه قال بنبرة متشفية حقودة
برافو أحبك وإنتي بتسمعي الكلام كده!
سمح لها بالمرور زحفا للداخل ليغلق الباب ورائها كانت على وشك النهوض لتقف مستقيمة لكنه جمدها في مكانها بإشارة من سبابته فظلت على وضعها المهين ومع ذلك سألته بصوت جريح
إنت بتعمل فيا كده ليه
انتصب في وقفته المغيظة أكثر وقال من علياه
بفهمك وضعك إيه هنا يا دكتورة...
نظرت له بعينين ضيقتين تكنان له كل كراهية
الدنيا فأكمل برد قاس كالسهام فأصاب كبريائها في مقټل
أوعي تفتكري عشان الناس بتحترمك برا بقالك قيمة!! أنا اللي عملتك وأنا برضوه اللي أقدر أكسرك وأهدك!
ابتلعت مرارة الإهانة وألم الذل قسرا لتسأله برأس محڼي وهي لا تزال جاثية على قوائمها الأربع
عاوز مني إيه
أمسك بطرف الطوق المعدني الملتف حول عنقها جذبها منه بغتة فتأوهت من الألم المهين ورفعت عينيها الحمراوين لتنظر إليه في انكسار ومڈلة. ابتسم لها بشكل شيطاني وأخبرها بما جعل كل ما فيها يرتجف بقوة
كل خير يا ... مراتي الحلوة!
من قال أن الأحزان تخبت بمرور الشهور والأيام بل إنها تزداد عمقا وترسخا في الوجدان! عام كامل انقضى على رحيل والدتها ورغم ذلك لم تنس هذه اللحظة العصيبة التي عاشتها بكل جوارحها أصبح الحزن الكبير من نصيبها ملازما لها كما كان معها من قبل لم يتغير أي شيء حولها سوى أنها باتت بالفعل وحيدة تعيسة متباعدة بمشاعرها حتى عن زوجها. مدت فردوس يدها ووضعت كوبي الشاي الفارغين في الصينية ونظرت إلى جارتها إجلال عندما خاطبتها بصوت شبه معاتب
بقالك سنة ياختي لابسة أسود مش ناوية تقلعيه كفاية حزن بقى!
ردت عليها بمرارة
وإيه يفرح في دنيتي عشان ألبس ملون عليه الحزن معشش خلاص جوا القلوب.
تأثرت لحالها وتعاطفت معها بشدة فحاولت تخفيف وطأة ما تعايشه بكلامها المطبب لجرجها الذي لم يندمل بعد
هوني على نفسك يا دوسة.
بالكاد حاولت مغالبة دموعها القريبة وهي تعقب عليها
أنا بقيت مقطوعة من الدنيا.
شعرت إجلال وكأنها عاجزة عن مواساتها فحاولت تغيير الموضوع لآخر وسألتها بشكل عفوي
ولسه برضوه مافيش أخبار عن تهاني
حينئذ اسودت ملامحها واشټعل وجهها على الأخير لټنفجر فيها پغضب مشحون
ماتجبيش سيرتها الجاحدة الظالمة بنت ال ... دي كفاية إنها جابت المړض والعيا لأمي وفي الآخر ماټت بحسرتها عليها هي دي أخت دي!!!
بحذر واضح قالت
الله أعلم ظروفها إيه!
واصلت هجومها العدائي عليها بشراسة فانطلقت الكلمات اللاعنة من بين شفتيها كالسيل العرم
ربنا يجحمها مطرح ماهي أعدة إن كانت حية ولا مېتة ولا تشوف طيب أبدا
لا دنيا ولا آخرة!
ندمت جارتها للفكرة غير الموفقة في الحديث عن شقيقتها ورجتها بضيق منزعج
خلاص بقى صلي على النبي في قلبك.
نفخت فردوس عاليا وهي ترد
عليه الصلاة والسلام.
نهضت إجلال دافعة كرسي طاولة السفرة للخلف قليلا وقالت بإصرار وهي تجمع ما تبقى من أطباق كانت مملوءة بالفاكهة والبسكويت
عنك أنا هودي الصينية المطبخ وأشطف اللي فيها.
اعترضت عليها فردوس قائلة
مافيش داعي تتعبي نفسك الحكاية مش مستهلة.
صممت بترحاب
ولا تعب ولا حاجة.
غابت بعدئذ لدقائق في المطبخ ريثما انتهت من تنظيف كل شيء لتخرج وهي تمسح يديها المبللتين في جانبي عباءتها متحدثة إلى فردوس
أنا هنزل دلوقتي شقتي وأبقى أفوت عليكي وقت تاني خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
أنهت جملتها وهي تقبلها على وجنتيها بالتتابع لترد عليها الأخيرة باقتضاب
طيب.
ألقت عليها التحية قبل أن تسحب الباب ورائها لتغلقه
سلام عليكم.
همت فردوس بالاستدارة والذهاب إلى غرفة نومها لكن استوقفها في منتصف الطريق قرع الجرس تساءلت في استغراب
هي إجلال نسيت حاجة ولا إيه
في تلقائية واضحة نادت من موضعها دون أن تفتح الباب بعد لترى من الطارق
أيوه يا إجلال!
تجمدت في مكانها مذهولة وقد أبصرت من أذاقها قساوة الغدر يقف قبالتها بشحمه ولحمه همهمت باسمه في صدمة جلية
بدري!
كانت لا تزال على دهشتها وهو يسألها بروتينية مشوبة بالحرج
إزيك يا مرات أخويا
في التو اكتسب وجهها طابعا مستنكرا وتحولت نظراتها للسخط لتظهر عدم ترحيبها بظهوره المفاجئ. تنحنح بدري بصوت خفيض قبل أن يستطرد
لا مؤاخذة إن كنت جيت
كده على غفلة...
راقبته في نظرات متحفزة فاستمر يخاطبها
أنا لسه راجع وسألت عن عوض أخويا والناس قالولي إنه لسه ساكن هنا..
لاذت بالصمت المريب وكأن حضوره غير المتوقع قد جمدها. سألها بدري بعفوية وبعشم غير موفق
هنفضل واقفين كده على الباب مش هتقوليلي أتفضل يا مرات أخويا
ما بينهما لم يكن عاديا بل كان حافلا بالكثير الأحرى أن يقال أن هجره لها بهذه الخسة تسبب لها لاحقا فيما تعرضت له من ذل وهوان. عاملته بجفاء صريح حين ردت في عبوس
جوزي مش موجود مقدرش أقولك اتفضل وأنا ست لوحدي.
تفهم موقفها هاتفا
اللي إنتي شايفاه صح اعمليه.
حك مؤخرة عنقه ليتابع بعدها بشيء من التردد الحرج
عموما أنا كنت عاوز أقولك كلمتين أنا محقوقلك في اللي عملته زمان ونفسي تسامحيني.
نظرت له بحنق قبل أن تخبره عن عمد قاصدة التعبير عن كراهيتها الصريحة لما اقترفه في حقها قديما
ربنا بيخلص من كل واحد اللي عمله.
هز رأسه قليلا ليضيف بغموض وبصوت يعبر عن الأسى
معاكي حق واهوو ربنا انتقم مني وشوفت المرار كله.
طالعته بتحير فلم يوضح أكثر واكتفى بالطلب منها
لما يرجع عوض قوليله إن أخوه جه وسأل عليه وأمه نفسها تشوفه.
أوجزت في ردها عليه كأن شأن عائلته مع زوجها لا يعنيها بالمرة
طيب.
استدار بدري استعدادا لانصرافه ومع ذلك توقف ليقول بندم
حقك عليا مرة تانية
يا ست البنات.
اعتصر الألم قلبها للحظة فقټلت ذلك الشعور الموجع وتحركت عائدة لبيتها ولسان حالها يهمهم في حسرة
يفيد بإيه الندم بعد ما كله خلاص راح واتكسر !!!
يتبع الفصل الثاني والعشرين
الفصل الثاني والعشرون
البديل
حينما وصلت إليه أنباء علتها الصحية لم يتردد عوض للحظة في الذهاب إليها على وجه السرعة لرؤيتها والمكوث معها لعدة أيام ريثما يطمئن عليها ويعوض ما فاته بفراقها لسنوات عنه لكنها كانت كعادتها ساخطة ناقمة مشحونة بكراهية غير مبررة تجاه زوجته المغلوبة على أمرها. اشتد بصدره الوجيب وامتلأ وجهه بعلامات الاستهجان ووالدته لا تزال تلح عليه في تصميم مغاير لما يريده
يا ابني اسمع الكلام وبطل مناهدة...
حول أنظاره عنها فأكملت بما يشبه الإهانة
دي أرض بور ومافيش منها رجا قعدتك معاها هتخسرك اللي فاضل من عمرك.
احتج على ظلمها المجحف وصاح مستنكرا بضيق
أنا راضي بحالي معها فمالوش لازمة الكلام ده
أمسكت بذراعه وتوسلته بمكر
وتزعل أمك
كان محاصرا بين نارين الظفر بمحبتها وبمراعاة غيبة زوجته. زفر مليا وقال بتعابير ممتعضة وهو يحتضن كفها بيده
زعلك غالي عندي بس أنا بتقي الله في مراتي.
كادت تنطق بشيء لتسخر منها فاستوقفها باسترساله وهو يستل يده من كفها بعدما أراحه على الفراش
فردوس اللي مش عجباكي دي وعمالة تجيبي من الأرض وتحطي عليها من غير ذنب وقفت معايا لما الكل إداني ضهره وأولهم إنتي.
تجهمت على الأخير فاستمر مضيفا وكأنه يبدي عرفانه بصنيع جمائل حماته الراحلة معه
أمها فتحت باب بيتها ليا واعتبرتني ابنها